السبت، 25 يونيو 2011

أيها البحر

أيها البحر..

وقفتُ أنظرُ إليك نظرةَ المتأمل، وأدرسُك دراسةَ المتعلّم، وأحدثُك حديثَ المتفهم.

حاولتُ أنْ أقرأَ رسائلَك المطويّة، وأستكشفَ أسرارَك الخفيّة، وأفهمَ لغتَك الموجيّة، لعلّني أصلُ إلى تفسيرِ طبائعِك الغريبةِ كغموضِ أعماقِك، المتناقضةِ كتبدّلِ أحوالِك، المتذبذبةِ كتموّجِ مياهِك.

حكايتي معك بدأتْ منذ ولادتي في بيتٍ بجوارِ شاطئِك، وفقدي لأختي الصغيرة التي غرقتْ في أمواجِك، حكايتي معك استمرتْ لتظهر أنتَ لي متمثلاً في شخصياتٍ مختلفة بل متناقضة جعلتني لا أستقرُّ على رأيٍ فيك، أو أصل إلى حكمٍ عليك، وضعتني في حيرةٍ من تحوّلِ أمرِك، ومن تفاوتِ حالك، ومن غرابةِ سرِّك.

أنت والإنسان! ما أشبه اختلاف الطبائع وتبدّل الأمزجة وتقلّب الأحوال.

تتأثر بما هو حولك بالليلِ والنهار، والشمسِ والقمر، وحالة الطقس والفصول الأربعة، فهل هذا إفراطٌ في إحساسك، أم هو تفاعلٌ مع ما يدورُ في داخِلك وخارجِك، وأنت في كل الأماكن تؤدي مهماتَك وأدوارَك، في المحيطات الواسعة والبحيرات الضيقة، تؤديها بكل أمانة حتى لو كانت في غاية القسوة والصرامة.

تكونُ أحياناً في حال الهدوء، تتحركُ أمواجُك في صمتٍ ودعة، وتبدو مياهُك في سكونٍ ونقاء، وبعدها تتحول إلى حالة الغضب، تتحرك أمواجُك في شدةٍ وعنف، وتظهرُ مياهُك في تعكرٍ واختلاط، لا أدري أيها البحر.. ما الذي يفرحُك وما الذي يحزنُك، ما الذي يهدئُك، وما الذي يغضبُك!

يتهمونَك بالقسوة والغدرِ، ولا أعلمُ هل هو طبعٌ فيك أم هو اختلاف في مزاجك، أجدادنُا وآباؤنا غاصوا في أعماقِك، وقاسوا من عنتِك، وخافوا من بطشِك، وتكلموا عن غدرِك، وأنت لا زلت على حالك لم تتغيّر.
لم يُثنِهم ذلك عن خوضِ عبابِك، واستخراج دررِك ولآلئِك، فالخيراتُ التي أودعها الخالقُ في أحشائِك، جعلتهم يقبلون التحدي والتضحية، ويستمرون في العناءِ والكفاح، علمتْهم أن يمضوا في أهدافِهم حتى لو كانت صعبة، حتى لو تبدلتْ الظروفُ، وادْلهمتْ الصعابُ، فلا بدّ يوماً من الوصولِ إليها.

مددتُ نظري إليك، إلى نهاياتك وجوانبِك فوجدتُ أنْ لا نهايةَ لاتساعِك ولا حدود لامتدادك، فكأنّك تقول كن مثلي في سعةِ أفقِك، وانفتاحِ تفكيرِك، وانطلاقِ جهودِك.

أراقبُ أمواجَك العالية وهي مندفعة نحو الشاطئ، يزدادُ عنفوانُها وقوتُها كلما اقتربتْ، وإذا وصلتْ تعالتْ أصواتُها، ثم لا تلبثُ أن تهدئ رويداً رويداً وهي تنسابُ برقّةٍ على الرمالِ الهادئة، هل أنت تنفث زفراتك، وتطلق آهاتك، هل هذه طريقتك في التخلصِ من همومِك، وبثّ أحزانِك، هل أنتَ تدعوني لأرمي كلَّ همومِي وأحزانِي فيك لأتخلصَ منها أو أنك ترشدني لأتعلمَ منك؟

لك معَ القمرِ حكايةٌ، ترويها في كلِّ شهر، وأنتَ تبدو بين المدِّ والجزرِ متأثراً بجاذبيتِه لك، هل أنت تهَواه أو هوَ يهوَاك، أمْ أنْ كلاكما يهوى الآخر! هل في القربِ والبعدِ، رغباتٌ وأشواقٌ تجعلك تتهادى بين منازلِ الحبّ العتيقة، وتهيمُ في طرقاتِ الذكرياتِ القديمة، يحركك الشوقُ حيناً، ويطربك اللقاءُ أحياناً أخرى، وكأنك في علاقتك مع القمر، تعطي درساً في فنّ العلاقات وسرِّ الجاذبية.

أيها البحر..
ستبقى أنت كما أنت
وأبقى أنا كما أنا
آتي إليك وأتعلم من قسوتك ولطفك، من غضبك وهدوئك، من وضوحك وغموضك.

يوسف الملا
7 أبريل 2011

ليست هناك تعليقات: