الثلاثاء، 17 يوليو 2018

أول شحنة نفط سعودي (1 مايو 1939م)



م. يوسف الملا

من الأمور الجميلة أن تكون يدا الملك المؤسس – طيب الله ثراه - التي رسّخت قواعد الدولة السعودية، هما اليدان اللتان تديران الصمام في ميناء رأس تنورة لتحميل أول باخرة بالنفط الخام السعودي؛ ففي الأول من مايو من عام 1939م، شهدت المملكة لحظات تاريخية امتزج فيها الشكر بالابتهاج؛ شكر الله الكريم على هذه النعمة العظيمة، والبهجة الغامرة بدخول السعودية إلى الأسواق العالمية من أوسع أبوابها، حيث ابتدأ عهد اقتصادي جديد يدعم بناء المملكة ويوطد سبل أمنها ويضمن استمرار رخائها، سنسرد أحداث احتفال فريد من نوعه شهده الآلاف من المواطنين وسعد به كافة أفراد الشعب في أول زيارة للملك عبدالعزيز لأرامكو ومنشآتها، حيث تحولت الأحلام إلى واقع ملموس.


اتفاقية الامتياز

بعد توقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط بين الحكومة السعودية وشركة سوكال SOCAL الأمريكية (Standard Oil of California) في مايو من عام 1933م، شرعت شركة كاسوك في أعمال الاستكشاف والتنقيب، وكاسوك CASOC (California Arabian Standard Oil Company هو مسمى الشركة التي تأسست بناء على الاتفاقية بين سوكال والحكومة السعودية، وقد تم تغيير هذا المسمى إلى شركة أرامكو Aramco (Arabian American Oil Company) في عام 1944م بعد شراء شيفرون وموبيل نسبة كبيرة من أسهم شركة سوكال.




اكتشاف النفط
مضت أربع سنوات اتسمت بالجهد الكبير والعمل المتواصل منذ شروع شركة كاسوك (أرامكو) في حفر عدة آبار في قبة الدمام بمنطقة الظهران، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال، فتارة لا يوجد نفط إطلاقًا وتارة لا توجد منه إلا كميات ضئيلة جدًا، فأخذ اليأس يدبّ في شركة سوكال وظهرت منها توجهات للتوقف والانسحاب، لكن شاء الله أن يصرّ المهندس الجيولوجي ماكس ستاينكي على الاستمرار والحفر إلى عمق أكبر، فهو لم يخالجه شك أن النفط تختزنه هذه الأرض.
بفضل من الله، تدفق النفط بكميات تجارية من بئر الدمام 7 في مارس 1938م لتكون أول بئر منتجة للنفط، ولذا أطلق عليها الملك عبدالله رحمه الله لاحقًا بئر الخير، وسرعان ما انتشر الخبر السعيد في أرجاء البلاد.




التجهيز لنقل النفط وتصديره
بعد الفرحة الكبرى باكتشاف النفط، بدأ التخطيط لتصديره إلى العالم، فاتجهت الأنظار إلى رأس تنورة؛ تلك الأرض الممتدة في مياه الخليج العربي، التي اختارها الملك عبدالعزيز لإنشاء ميناء تجاري في بداية الثلاثينيات الميلادية، ولا عجب فموقع رأس تنورة الجغرافي وعمق مياه البحر حولها يخوّلها لأن تكون المكان الاستراتيجي الأنسب والأمثل لاحتضان منشآت ميناء تصدير النفط.
من أجل تحقيق ذلك الهدف، قررت شركة كاسوك (أرامكو) إنشاء مدينة سكنية للموظفين في رأس تنورة وتمهيد طريق يربط الظهران برأس تنورة، كما قررت مد خط أنابيب من الظهران إلى رأس تنورة وإنشاء خزانات وأرصفة ميناء.
بدأ العمل حثيثًا في مد أنبوب النفط بقطر 10 بوصة وطول 43 ميلًا (69 كيلومترًا) من الظهران إلى رأس تنورة، كذلك إنشاء خزانات لتجميع النفط قبل ضخه إلى ناقلات النفط وتمهيد طريق للسيارات.




الاتفاق على يوم تصدير النفط
في أكتوبر 1939م، وصل ويليام لينهان محامي شركة سوكال إلى الرياض ليبشر الملك عبدالعزيز بالعثور على النفط بكميات تجارية كبيرة بعد حفر آبار جديدة وتعميق الحفر في آبار أخرى، وخلال اللقاء اتفق لينهان ممثلًا عن إدارة شركة سوكال مع الملك عبدالعزيز على تحديد الأول من مايو عام 1939م، ليكون هو اليوم الذي يقوم فيه المؤسس بافتتاح ميناء رأس تنورة النفطي وتدشين أول شحنة نفط.

الانتهاء في الموعد المحدد

في مدة لم تتجاوز الأربعة عشر شهرًا، تحقق الإنجاز الكبير باكتمال مد الأنبوب وإنشاء أول ثلاثة خزانات؛ إضافة إلى اكتمال طريق السيارات، كما تم البدء في إنشاء مساكن للموظفين في حي نجمة برأس تنورة من خلال تركيب عدد من البيوت الجاهزة (البورتبلات).  




قدوم الملك من الرياض

حينما اكتملت المنشآت لتصدير أول شحنة من النفط السعودي إلى الخارج، بدأ جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه زيارته الرسمية الأولى للشركة ومنشآتها، حيث قدم جلالته من الرياض في قافلة كبيرة تتألف من 400 سيارة تحمل أكثر من 2000 شخص عبروا رمال الدهناء الحمراء عبر المسارات الصحراوية متجهين شرقًا نحو المنطقة الشرقية (منطقة الأحساء آنذاك).

مر الموكب في طريقه بمخيم معقلا ومخيم أبو حدرية وتفقد الملك عبدالعزيز ومرافقوه معدات وأجهزة استكشاف النفط ومنشآت التنقيب عنه، كما قابلوا موظفي كاسوك (أرامكو) العاملين هناك، والتقوا بعدد من الأهالي الذين يعيشون بالقرب من المخيمين، وبعدها استمر الموكب في مسيرته حتى وصل إلى الظهران في 8 ربيع الأول 1358هـ الموافق 28 أبريل 1939م، وجدير بالذكر أن اسم (الظهران) قد أُطلق رسميًا عليها في فبراير 1939م، مع أن منطقة الظهران معروفة تاريخيا وكانت مأهولة بالسكان في وقت مضى، لكنها أضحت مهجورة حتى بداية عمليات استكشاف النفط.




كان قدوم الموكب احتفالًا للأهالي والموظفين عندما مر حرس الملك وهم يركبون العربات التي تسير في المقدمة بملابسهم الحمراء متقلدين سيوفًا وخناجر وأحزمة رصاص على صدورهم وبنادق على أكتافهم، ثم تبعتهم العربات المفتوحة للجنود بملابسهم البيضاء والذين مروا وهم يهتفون فرحين وملوحين ببنادقهم.
وصل المؤسس الملك عبدالعزيز يرافقه سبعة عشر فردًا من الأسرة الملكية، وأربعة وزراء وأربعمائة من الجنود، وتضمن برنامج الزيارة تفقد منشآت الشركة في الظهران ورأس تنورة، وتدشين تحميل أول باخرة، وكذلك زيارة القطيف والدمام والخبر.


مخيم الضيوف

استضافة هذا العدد الكبير استلزم إقامة مدينة مؤقتة في مكان قريب من سكن ومكاتب شركة كاسوك، حيث تم إنشاء مخيم كبير لإقامة الزوار، تكوّن من 350 خيمة بيضاء نصبت على قطعة من الأرض تناسب إقامة الاحتفالات والمآدب وحفلات الاستقبال كما أنها لا تبعد عن المنشآت التي سيزورها الملك.

في أجواء احتفالية هي أشبه بالمهرجانات، استمتع الجميع بمشاهدة العرضة السعودية واستعراض الفرقة العسكرية وحضور الولائم الكبيرة، فجميع الزوار والأهالي سعيدون بهذه المناسبة التاريخية التي لا تنسى.




من الظهران إلى رأس تنورة

في صباح يوم الأثنين 11 ربيع الأول 1358هـ الموافق 1 مايو 1939م، انطلق الموكب الملكي من مدينة الظهران وسط حشود كبيرة متجهاَ إلى رأس تنورة عبر الطريق الجديد الذي أنشئ ليربط بين منشآت إنتاج النفط في الظهران ومنشآت تصديره في رأس تنورة، وعند وصول الملك عبدالعزيز إلى رأس تنورة استقبله فلويد أوليجر ورافقه إلى السرادق الذي أقيم بهذه المناسبة.

وضعت الزينة على مبنى جمارك ميناء رأس تنورة ترحيبا بقدوم جلالة الملك، وتوافد الموظفون والأهالي لاستقبال المؤسس والبهجة تملؤهم في هذا اليوم التاريخي الذي سيشاهدون فيه ملكًا قويًا وحّد البلاد وأسس مملكة عظيمة يسودها الأمن.

بدأت الزيارة بتفقد المنشآت الجديدة في معمل المضخات Pump House وساحة الخزانات، حيث قام بعد الملك عبدالعزيز ومرافقوه بجولة على الخزانات الثلاثة التي اكتمل إنشاؤها لتخزين النفط قبل شحنه عبر مضخات إلى البواخر، وكان المؤسس يتجول في أنحاء المعمل وهو يشكر الله على هذه الثروة التي حباها البلاد.





بداية عهد جديد

وقف المؤسس باعتزاز وامتنان عند الصمام الذي سيفتحه بيديه الكريمتين ليعلن انطلاق عهد جديد لمملكته الشامخة، وكان بجانبه وزير المالية الشيخ عبدالله السليمان وفلويد أوليجر ممثلًا عن شركة كاسوك وهو معروف بأنه كسب ثقة الملك عبدالعزيز وتربطه به علاقة قوية، كما وقف رجل الأعمال الشيخ محمد عبدالله علي رضا يترجم للملك، وهو الذي أصبح أول وزير تجارة لاحقًا، وعلى يمين الملك أ. س. روسل أحد مدراء شركة سوكال الأمريكية.

بدأ المؤسس بفتح الصمام وهو يحمد الله على هذه النعمة، وقام الوزير عبدالله السليمان بمساعدته في إدارة الصمام، وكأني أراه مفتخرًا بقطف ثمرة جهود الحكومة بعد مرور 6 سنوات من توقيع اتفاقية الامتياز عام 1933م، كما شارك مستشار الملك الليبي بشير السعداوي في هذا الحدث الكبير، في أجواء عمّ فيها السرور على جميع الحضور من أمراء ووزراء ومسؤولين ومواطنين.
وبهذا تدفق النفط عبر الأنبوب المغمور في البحر، ومنه إلى الأنبوب المرن (الخرطوم) المتصل بأنبوب استلام النفط على الباخرة سكوفيلد.




رسالة تهنئة من سوكال
بعد فتح الصمام قام فلويد أوليجر بتسليم الملك عبدالعزيز رسالة من مجلس إدارة شركة سوكال تهنئه فيها بتحميل أول ناقلة بالنفط الخام السعودي، وكان الشيخ محمد رضا يقرأ ويترجم الرسالة للملك عبدالعزيز الذي سرّ بمحتواها.  




د. ج. سكوفيلد D. G. Scofield 

اشتهرت ناقلة النفط د. ج. سكوفيلد وحازت على شرف تدوين اسمها في تاريخ صناعة النفط السعودية، بكونها أول باخرة يتم تحميلها بالنفط الخام السعودي، ناهيك عن تشريف المؤسس لها بزيارتها.
هذه الباخرة هي ملك لشركة سوكال، وتحمل اسم أول رئيس للشركة ديمتروس ج. سكوفيلد (1853- 1917م).

يبلغ طول السفينة 457 قدمًا وعرضها 58 قدمًا، وتم تصميمها لنقل 81,224 برميلًا من النفط الخام، و10,676 برميلًا من الوقود، وكانت كبيرة بمقاييس تلك الفترة، لكنها تعتبر صغيرة مقارنة بناقلات النفط العملاقة حاليًا.




الصعود على ناقلة النفط
استقلّ الملك عبدالعزيز وعدد من مرافقيه مركبًا من رصيف ميناء رأس تنورة (الرصيف الغربي) واتجهوا نحو السفينة سكوفيلد الراسية في مياه الخليج العربي على بعد كيلومتر واحد تقريبًا من الشاطئ، حيث لم يتم إنشاء الرصيف الجنوبي إلا في بداية الأربعينيات الميلادية.

رسا المركب عند منصة ملتصقة بالسفينة، نزل عليها الملك ومرافقوه وأطلقت صافرات السفينة ترحيبًا بهم ثم صعدوا السلم المؤدي إلى متن السفينة، حيث استقبل الملك عدد من جنود البحرية الأمريكية وبادلهم جلالته التحية، ثم تبعه الأمير منصور بن عبدالعزيز أول وزير دفاع سعودي وبقية المرافقين.




فور وصول جلالته إلى سطح السفينة، فتح الصمام معلنًا تحميلها بالنفط السعودي، وبعد ذلك تجوّل في السفينة واطلع على أقسامها.




أمير البحرين مهنئًا

في اليوم التالي قدم أمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة للسلام على المؤسس، وتهنئته بتصدير النفط، وتقديم دعوة لجلالته لزيارة البحرين، حيث وصل عبر فرضة الخبر مع وفد كبير من الشيوخ والمسؤولين، وكان في استقباله جلالة الملك عبدالعزيز.





ليست هناك تعليقات: