الجمعة، 30 نوفمبر 2018

بدايات التعليم في الشرقية


بدايات التعليم في الشرقية
من الكتاتيب إلى التعليم الحكومي

م. يوسف الملا
(مقال تم نشره في صحيفة اليوم يوم الجمعة 16 رمضان 1439هـ، 1 يونيو 2018، وأضيفت صور أكثر)

مسايرة لنهضة التعليم في العهد السعودي الزاهر، حققت الحركة التعليمية في المنطقة الشرقية منذ بداياتها قفزات هائلة في زمن قصير، متميزة بالجهود الكبيرة التي بذلها رجال التعليم المخلصون تحت قيادة حكومتنا الرشيدة، ومدعومة بتشجيع الأهالي وحرصهم على تعليم أبنائهم وبناتهم، ولا ننسى مساهمة شركة أرامكو في بناء المدارس ودعم التعليم.

مدرسة الجبل أول مدرسة بالظهران في الخمسينيات الميلادية، حيث كان الطلاب يتعلمون الإنجليزية تمهيدا لإلتحاقهم بشركة ارامكو 

التعليم أولوية

حظي التعليم باهتمام المؤسس الملك عبدالعزيز منذ نشأة الدولة الفتية، لإدراكه أن من أهم ركائز التطوّر الحضاري هو بناء المواطن الصالح الملمّ بأمور دينه ودنياه، وسار أبناؤه الملوك على خطاه.

مديرية المعارف

تأسيس مديرية المعارف العامة في عام 1344هـ كان بمثابة إرساء حجر الأساس لنظام التعليم الحكومي في المملكة، وهو ثمرة أول اجتماع للملك عبدالعزيز طيب الله ثراه مع العلماء والمهتمين بالتعليم بعد دخوله مكة المكرمة.

أوكل إلى المديرية الإشراف على التعليم على مختلف مراحله ومتابعة تطوراته ووضع سياساته، والذي تحقق بفضل من الله إذ لم يمضِ وقت قصير حتى كانت شبكة المدارس تعمّ جميع أنحاء البلاد وتنتظم جميع مراحل التعليم وفروعه، وحازت المنطقة الشرقية على نصيبها من ذلك الإنجاز، وفي عام 1373هـ، أنشئت وزارة المعارف وكانت امتدادًا وتطويرًا لمديرية المعارف، وكان الملك فهد رحمه الله أول وزير لها، وهو الذي قاد مسيرة التعليم إلى آفاق أوسع ونحو إنجازات أعظم.



التعليم التقليدي

تعتبر الكتاتيب أولى مراحل التعلّم، وكانت تُعنى بتعليم البنين والبنات من سن السادسة تقريبًا قراءة القرآن الكريم وحفظه، والقراءة والكتابة، والحساب، ومبادئ العلوم اللغوية والشرعية، وعادة ما يكون مقر الكتّاب في منزل المعلم، والذي يطلق عليه (الملا) أو (المطوع) أو منزل المعلمة والتي يطلق عليها (المطوعة)، ولعل كثرة الكتاتيب في المنطقة الشرقية من المؤشرات 
على مدى نشاط الحركة التعليمية في فترة ما قبل النفط.

إضافة للكتاتيب، شكّلت حلقات التعليم في المساجد مصدرًا آخر للتعلّم، حيث كان المسجد مكانًا للتعليم والوعظ والإرشاد، وكذلك انتشرت مدارس دينية وقفية.



المدارس الأهلية

قبل تأسيس التعليم الحكومي، انطلقت حركة التعليم الأهلي تلبية لرغبة العلماء والأهالي وحاجة البلاد إلى وجود مدارس منظمة، ويمكن اعتبار مدرسة النجاح الأهلية بالأحساء نموذجًا رائعًا، حيث قام بتأسيسها الشيخ حمد بن محمد النعيم في عام 1343هـ بدعم من أسرة القصيبي، وأدخلت فيها مواد دراسية جديدة كعلوم اللغة العربية والعلوم الدينية والرياضيات ومسك الدفاتر وبعض ما تتطلبه الحياة المعاصرة، وتم توزيع الطلاب إلى فصول دراسية حسب مستوياتهم العلمية، وهذا ما لم يكن معمولًا به في المدارس الدينية والكتاتيب.

ولقد تشرفت المدرسة بزيارة الملك عبدالعزيز رحمه الله لها ولقد أعجب بمستوى الطلاب وطريقة التدريس وسلّم بعض الجوائز للمتميزين.

مدرسة في الأحساء

أول مدارس حكومية

في عام 1355هـ/ 1936هـ، صدرت التوجيهات الحكومية بفتح ست مدارس حكومية في مقاطعة الأحساء (المنطقة الشرقية) في الهفوف، والمبرز، والقطيف، والجبيل، والدمام، والخبر، وبناء عليها، أعيد في عام 1356هـ افتتاح أول مدرسة ابتدائية للبنين، وهي مدرسة الهفوف الأولى (المدرسة الأميرية)، وكذلك أنشئت مدرسة الدمام الأولى في نفس العام، ثم افتتحت مدرسة الجبيل في عام 1957هـ، كما تم افتتاح مدرسة المبرز الأولى عام 1958م، وبعد مرور ثلاثة أعوام، أي في عام 1361هـ، تم بناء مدرسة الخبر الابتدائية الأولى، ويظهر أنها كانت موجودة قبل ذلك كمدرسة أولية تأسست عام 1359هـ حسب ما نشر في صحيفة صوت الحجاز. 

أما في القطيف فقد افتتحت المدرسة الحكومية الأولى في عام 1357هـ، لكن الإقبال عليها كان ضعيفًا، فأغلقت المدرسة بعد سنتين تقريبا، ولم يعاد فتحها إلا في عام 1367هـ.
كانت هذه هي البدايات، لكن ما لبث أن انتشر التعليم النظامي بصورة واسعة في أغلب مدن وقرى المنطقة الشرقية.

لحظة خروج طلاب المدرسة الأميرية بالهفوف عام 1949م

مشاكل ومعوقات

لم يكن انضمام الطلاب إلى المدارس وانضباطهم في الدراسة، أمرًا سهلًا في البدايات، فالكثير من الأسر الفقيرة كانت تعتمد على أبنائها في العمل لتوفير لقمة العيش، إضافة إلى اعتراض بعض الناس على عدد من المناهج الحديثة، لذا تطلب إقناعهم بأهمية التعليم جهودًا كبيرة بذلتها الحكومة ورجال التعليم المخلصون.

مدرسة الأحساء الأميرية
قامت مديرية المعارف بفتح المدرسة الأميرية بالهفوف، وهي أول مدرسة حكومية بالإحساء عام 1350هـ، وعيّن فيها معلمان من سوريا هما الشيخ عبد الجليل الأزهري، والشيخ راغب القباني، لكنها لم تستمر إلا بضعة شهور، بسبب خطبة صلاة الجمعة التي تكلم فيها الشيخ القباني عن الأمية المتفشية بين الشباب، مما أثار حفيظة الكثير من العلماء الذين اعتبروها انتقاصا من جهودهم التعليمية، إضافة إلى اعتراضهم على بعض المناهج الحديثة، فقاوم الأهالي المدرسة والمدرسين بتأييد من العلماء والمشايخ.

وفي عام 1356هـ، أعيد افتتاح المدرسة الأميرية بعد تعيين الشيخ محمد علي النحاس مديرًا لها، ولقد نجح في مهمته بأن تفادى أخطاء من سبقوه، فاستطاع نيل ثقة علماء الأحساء، وكتب على نفسه تعهدًا بأن لا تُدرّس أية مناهج إلا بموافقتهم، واستشارهم في اختيار المعلمين، وبذلك أشركهم في المسؤولية، فأقبل الطلاب على المدرسة بعد أن عرف الأهالي رأي العلماء فيها، وهي تعتبر أول مدرسة حكومية سعودية في المنطقة الشرقية.



من الابتدائي إلى الثانوي

في بداية الستينيات الهجرية لم تُفتح فصول للسادس ابتدائي في الكثير من مدارس الشرقية، مما دفع الطلاب إلى السفر إلى الأحساء والإقامة في سكن داخلي من أجل إكمال دراستهم في مدرسة الهفوف الأولى (الأميرية)، وجدير بالذكر أن شهادة المرحلة الابتدائية كانت مؤهلة للعمل بوظيفة معلم في إحدى المدارس الابتدائية.

بعد إتمام المرحلة الابتدائية ينتقل الطالب إلى المرحلة الثانوية، فالمرحلة المتوسطة كانت مدمجة مع المرحلة الثانوية إلى عام 1377هـ، وفي عام 1378هـ ظهرت كمرحلة مستقلة، واشتهرت مدرسة الهفوف أنها من أوائل المدارس في الشرقية التي فتحت فصلًا للمرحلة الثانوية عام 1367هـ.

المدرسة الأولى بالدمام عام 1956م

تسمية المدارس

يبدو أن إطلاق اسم (المدرسة الأميرية) على المدارس الحكومية كان معمولًا به لفترة من الزمن، لذا ورد اسم مدرسة الدمام الأميرية ومدرسة الجبيل الأميرية في عدد من الوثائق.
وبصورة عامة، استبدلت أسماء كثير من المدارس، فمثلًا في مدارس البنين؛ تغيّر اسم مدرسة الدمام الأولى إلى مدرسة سعد بن أبي وقاص، وتغير اسم مدرسة الدمام الثانية إلى مدرسة القادسية، أما بالنسبة لمدارس البنات فتغيّر اسم مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية في الخبر إلى المدرسة الابتدائية الرابعة.



مدارس كاسوك (أرامكو)

شرعت شركة كاسوك في عام 1359هـ/ 1940م تعليم موظفيها أساسيات القراءة والكتابة، فافتتحت أولى مدارسها في الخبر، في حجرة مستأجرة من منزل حجي بن جاسم، وافتتحت المدرسة الثانية في حي سكن العمال السعوديين بالظهران والتي عرفت بـ (مدرسة الحي السعودي)، وكانت الدراسة مسائية ومتاحة للموظفين وغير الموظفين، وقد فتحت الشركة في العامين التاليين مدارس مماثلة في رأس تنورة، وبقيق، والعزيزية.



في عام 1363هـ/ 1944م أي في العام الذي أخذت فيه الشركة اسمها: (أرامكو)، افتتحت (مدرسة الجبل) في الظهران، وكانت الدراسة أربع ساعات فقط، وبالإضافة إلى اللغة الإنجليزية، ألحق بها تدريس اللغة العربية قراءةً وكتابة، والمواد الدينية فيما بعد، والرياضيات، كما قدمت مقررات في التاريخ وقواعد اللغة العربية، وقد استمرت إلى أوائل الخمسينيات الميلادية، حينما صدر التوجيه الحكومي بإغلاقها.




برنامج محو الأمية

بدأت حكومة المملكة حملة مكافحة الأمية في 1372هـ/ 1953م، فقررت شركة أرامكو، بتوجيه من ولي العهد الأمير سعود، بأن تفتح فصول مكافحة الأمية لموظفيها الأميين في كل مكان يوجد فيه ثلاثون موظفًا فأكثر، وأن تتبع مناهج مديرية المعارف العامة التي ستتولى الإشراف على تنفيذ البرنامج ومنح شهادات للناجحين، أما أرامكو فتقوم بتقديم مكافآت مالية للناجحين.


مدرسة محو الأمية بالظهران عام 1953

مساهمة أرامكو في بناء المدارس

يمثل بناء أرامكو للمدارس في المنطقة الشرقية حدثًا حاضرًا على الدوام في ذاكرة أبناء المنطقة، فقد كانت هذه المدراس متميزة في بنائها وتأثيثها وصيانتها، كما أنها فتحت لأبناء موظفي أرامكو وغيرهم، فكان لهذا الأمر أثره العميق على مجتمع المنطقة.

بعد مفاوضات طويلة بين الشركة ومديرية المعارف بدأت عام 1952م وبعد توجيهات من ولي العهد الأمير سعود، وافقت شركة أرامكو في يناير 1953م على قيامها ببناء مدارس كافية لاستيعاب أبناء موظفيها السعوديين، في مناطق عملها وخارجها من المنطقة الشرقية التي يقيم فيها أبناء الموظفين، وصيانة تلك المدارس، مع تقديمها رواتب المعلمين.

وكانت أول مدرسة ابتدائية بنتها أرامكو للبنين هي مدرسة الدمام الثانية التي سلمتها للحكومة عام 1954م، وتلتها مدرسة الخبر الثانية، وفي العام التالي أكملت الشركة بناء مدارس في كل من الهفوف، والمبرز، وسيهات، ورحيمة، وفي عام 1956م أكملت أرامكو بناء مدرستين في الدمام والثقبة، كما سلمت الشركة مدرسة صفوى عام 1958م، وبعدها مدرسة بقيق، ومدرسة أخرى في الهفوف.

الملك سعود رحمه الله يفتتح أول مدرسة ابتدائية تبنيها أرامكو - الدمام 1954م

في عام 1961م، افتتحت مدرسة الدمام المتوسطة، وفي العام التالي، أكملت الشركة بناء أربع مدارس متوسطة.

أما بالنسبة لمدارس البنات الابتدائية، فقد سلمت أرامكو أول مدرستين في عام 1964م، وكانتا مدرسة الخبر (مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية)، ومدرسة رحيمة الابتدائية.
واستمرت أرامكو في بناء المدارس حتى صدر قرار بإيقاف بناء المدارس والاكتفاء بصيانتها.

إحدى مدارس البنات التي بنتها أرامكو، 1964م

مدرسة بقيق التي بنتها أرامكو، 1959م

الشيخ عبدالعزيز التركي

لا يمكن الحديث عن التعليم في الشرقية دون ذكر الشيخ عبدالعزيز التركي، معتمد مديرية المعارف وأول مدير لإدارة التعليم بالمنطقة الشرقية، الذي استطاع بحماسه ونشاطه وحبه للتعليم، من تحقيق إنجازات كبيرة في تشييد المدارس والإقبال على التعليم، كما أنه قد تمكّن من احتجاز أراضٍ كثيرة وكبيرة لوزارة المعارف، تم الاستفادة منها فيما بعد لبناء المدارس.

الشيخ عبدالعزيز التركي يضع حجر الأساس لأول مدرسة متوسطة تبنيها أرامكو - الدمام 1960 

تعليم البنات

صدر الأمر الملكي الكريم من الملك سعود بن عبدالعزيز في يوم الخميس 20 من شهر ربيع الآخر عام 1379هـ ونشر في صحيفة أم القرى، وكان أول رئيس لتعليم البنات هو الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد، وأنشئت مندوبية المنطقة الشرقية عام 1380هـ، وعيّن الأستاذ علي بن إبراهيم الصقير مديرًا لها.


وقد تم افتتاح ثلاث مدارس ابتدائية بالمنطقة الشرقية، وكانت أول مدرسة هي المدرسة الابتدائية الأولى بالدمام التي تأسست عام 1380هـ/1960م.

في عام 1385هـ، انطلقت المرحلة المتوسطة في المنطقة الشرقية والتي بدأت بمدرستين في الدمام والقطيف بنسبة فصل واحد لكل مدرسة وعدد الطالبات لا يتجاوز 22 طالبة، وكانت فصولا ملحقة بمباني المدارس الابتدائية.


أما المرحلة الثانوية فبدأت عام 1391هـ بافتتاح ثلاث مدارس ثانوية بكل من الدمام والخبر والقطيف.

المراجع: مقالات عديدة في قافلة الزيت وفي جريدة اليوم، ومقالات للدكتور عبد الرحمن عبد الله الأحمري في مجلة الواحة.

الثلاثاء، 17 يوليو 2018

أول شحنة نفط سعودي (1 مايو 1939م)



م. يوسف الملا

من الأمور الجميلة أن تكون يدا الملك المؤسس – طيب الله ثراه - التي رسّخت قواعد الدولة السعودية، هما اليدان اللتان تديران الصمام في ميناء رأس تنورة لتحميل أول باخرة بالنفط الخام السعودي؛ ففي الأول من مايو من عام 1939م، شهدت المملكة لحظات تاريخية امتزج فيها الشكر بالابتهاج؛ شكر الله الكريم على هذه النعمة العظيمة، والبهجة الغامرة بدخول السعودية إلى الأسواق العالمية من أوسع أبوابها، حيث ابتدأ عهد اقتصادي جديد يدعم بناء المملكة ويوطد سبل أمنها ويضمن استمرار رخائها، سنسرد أحداث احتفال فريد من نوعه شهده الآلاف من المواطنين وسعد به كافة أفراد الشعب في أول زيارة للملك عبدالعزيز لأرامكو ومنشآتها، حيث تحولت الأحلام إلى واقع ملموس.


اتفاقية الامتياز

بعد توقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط بين الحكومة السعودية وشركة سوكال SOCAL الأمريكية (Standard Oil of California) في مايو من عام 1933م، شرعت شركة كاسوك في أعمال الاستكشاف والتنقيب، وكاسوك CASOC (California Arabian Standard Oil Company هو مسمى الشركة التي تأسست بناء على الاتفاقية بين سوكال والحكومة السعودية، وقد تم تغيير هذا المسمى إلى شركة أرامكو Aramco (Arabian American Oil Company) في عام 1944م بعد شراء شيفرون وموبيل نسبة كبيرة من أسهم شركة سوكال.




اكتشاف النفط
مضت أربع سنوات اتسمت بالجهد الكبير والعمل المتواصل منذ شروع شركة كاسوك (أرامكو) في حفر عدة آبار في قبة الدمام بمنطقة الظهران، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال، فتارة لا يوجد نفط إطلاقًا وتارة لا توجد منه إلا كميات ضئيلة جدًا، فأخذ اليأس يدبّ في شركة سوكال وظهرت منها توجهات للتوقف والانسحاب، لكن شاء الله أن يصرّ المهندس الجيولوجي ماكس ستاينكي على الاستمرار والحفر إلى عمق أكبر، فهو لم يخالجه شك أن النفط تختزنه هذه الأرض.
بفضل من الله، تدفق النفط بكميات تجارية من بئر الدمام 7 في مارس 1938م لتكون أول بئر منتجة للنفط، ولذا أطلق عليها الملك عبدالله رحمه الله لاحقًا بئر الخير، وسرعان ما انتشر الخبر السعيد في أرجاء البلاد.




التجهيز لنقل النفط وتصديره
بعد الفرحة الكبرى باكتشاف النفط، بدأ التخطيط لتصديره إلى العالم، فاتجهت الأنظار إلى رأس تنورة؛ تلك الأرض الممتدة في مياه الخليج العربي، التي اختارها الملك عبدالعزيز لإنشاء ميناء تجاري في بداية الثلاثينيات الميلادية، ولا عجب فموقع رأس تنورة الجغرافي وعمق مياه البحر حولها يخوّلها لأن تكون المكان الاستراتيجي الأنسب والأمثل لاحتضان منشآت ميناء تصدير النفط.
من أجل تحقيق ذلك الهدف، قررت شركة كاسوك (أرامكو) إنشاء مدينة سكنية للموظفين في رأس تنورة وتمهيد طريق يربط الظهران برأس تنورة، كما قررت مد خط أنابيب من الظهران إلى رأس تنورة وإنشاء خزانات وأرصفة ميناء.
بدأ العمل حثيثًا في مد أنبوب النفط بقطر 10 بوصة وطول 43 ميلًا (69 كيلومترًا) من الظهران إلى رأس تنورة، كذلك إنشاء خزانات لتجميع النفط قبل ضخه إلى ناقلات النفط وتمهيد طريق للسيارات.




الاتفاق على يوم تصدير النفط
في أكتوبر 1939م، وصل ويليام لينهان محامي شركة سوكال إلى الرياض ليبشر الملك عبدالعزيز بالعثور على النفط بكميات تجارية كبيرة بعد حفر آبار جديدة وتعميق الحفر في آبار أخرى، وخلال اللقاء اتفق لينهان ممثلًا عن إدارة شركة سوكال مع الملك عبدالعزيز على تحديد الأول من مايو عام 1939م، ليكون هو اليوم الذي يقوم فيه المؤسس بافتتاح ميناء رأس تنورة النفطي وتدشين أول شحنة نفط.

الانتهاء في الموعد المحدد

في مدة لم تتجاوز الأربعة عشر شهرًا، تحقق الإنجاز الكبير باكتمال مد الأنبوب وإنشاء أول ثلاثة خزانات؛ إضافة إلى اكتمال طريق السيارات، كما تم البدء في إنشاء مساكن للموظفين في حي نجمة برأس تنورة من خلال تركيب عدد من البيوت الجاهزة (البورتبلات).  




قدوم الملك من الرياض

حينما اكتملت المنشآت لتصدير أول شحنة من النفط السعودي إلى الخارج، بدأ جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه زيارته الرسمية الأولى للشركة ومنشآتها، حيث قدم جلالته من الرياض في قافلة كبيرة تتألف من 400 سيارة تحمل أكثر من 2000 شخص عبروا رمال الدهناء الحمراء عبر المسارات الصحراوية متجهين شرقًا نحو المنطقة الشرقية (منطقة الأحساء آنذاك).

مر الموكب في طريقه بمخيم معقلا ومخيم أبو حدرية وتفقد الملك عبدالعزيز ومرافقوه معدات وأجهزة استكشاف النفط ومنشآت التنقيب عنه، كما قابلوا موظفي كاسوك (أرامكو) العاملين هناك، والتقوا بعدد من الأهالي الذين يعيشون بالقرب من المخيمين، وبعدها استمر الموكب في مسيرته حتى وصل إلى الظهران في 8 ربيع الأول 1358هـ الموافق 28 أبريل 1939م، وجدير بالذكر أن اسم (الظهران) قد أُطلق رسميًا عليها في فبراير 1939م، مع أن منطقة الظهران معروفة تاريخيا وكانت مأهولة بالسكان في وقت مضى، لكنها أضحت مهجورة حتى بداية عمليات استكشاف النفط.




كان قدوم الموكب احتفالًا للأهالي والموظفين عندما مر حرس الملك وهم يركبون العربات التي تسير في المقدمة بملابسهم الحمراء متقلدين سيوفًا وخناجر وأحزمة رصاص على صدورهم وبنادق على أكتافهم، ثم تبعتهم العربات المفتوحة للجنود بملابسهم البيضاء والذين مروا وهم يهتفون فرحين وملوحين ببنادقهم.
وصل المؤسس الملك عبدالعزيز يرافقه سبعة عشر فردًا من الأسرة الملكية، وأربعة وزراء وأربعمائة من الجنود، وتضمن برنامج الزيارة تفقد منشآت الشركة في الظهران ورأس تنورة، وتدشين تحميل أول باخرة، وكذلك زيارة القطيف والدمام والخبر.


مخيم الضيوف

استضافة هذا العدد الكبير استلزم إقامة مدينة مؤقتة في مكان قريب من سكن ومكاتب شركة كاسوك، حيث تم إنشاء مخيم كبير لإقامة الزوار، تكوّن من 350 خيمة بيضاء نصبت على قطعة من الأرض تناسب إقامة الاحتفالات والمآدب وحفلات الاستقبال كما أنها لا تبعد عن المنشآت التي سيزورها الملك.

في أجواء احتفالية هي أشبه بالمهرجانات، استمتع الجميع بمشاهدة العرضة السعودية واستعراض الفرقة العسكرية وحضور الولائم الكبيرة، فجميع الزوار والأهالي سعيدون بهذه المناسبة التاريخية التي لا تنسى.




من الظهران إلى رأس تنورة

في صباح يوم الأثنين 11 ربيع الأول 1358هـ الموافق 1 مايو 1939م، انطلق الموكب الملكي من مدينة الظهران وسط حشود كبيرة متجهاَ إلى رأس تنورة عبر الطريق الجديد الذي أنشئ ليربط بين منشآت إنتاج النفط في الظهران ومنشآت تصديره في رأس تنورة، وعند وصول الملك عبدالعزيز إلى رأس تنورة استقبله فلويد أوليجر ورافقه إلى السرادق الذي أقيم بهذه المناسبة.

وضعت الزينة على مبنى جمارك ميناء رأس تنورة ترحيبا بقدوم جلالة الملك، وتوافد الموظفون والأهالي لاستقبال المؤسس والبهجة تملؤهم في هذا اليوم التاريخي الذي سيشاهدون فيه ملكًا قويًا وحّد البلاد وأسس مملكة عظيمة يسودها الأمن.

بدأت الزيارة بتفقد المنشآت الجديدة في معمل المضخات Pump House وساحة الخزانات، حيث قام بعد الملك عبدالعزيز ومرافقوه بجولة على الخزانات الثلاثة التي اكتمل إنشاؤها لتخزين النفط قبل شحنه عبر مضخات إلى البواخر، وكان المؤسس يتجول في أنحاء المعمل وهو يشكر الله على هذه الثروة التي حباها البلاد.





بداية عهد جديد

وقف المؤسس باعتزاز وامتنان عند الصمام الذي سيفتحه بيديه الكريمتين ليعلن انطلاق عهد جديد لمملكته الشامخة، وكان بجانبه وزير المالية الشيخ عبدالله السليمان وفلويد أوليجر ممثلًا عن شركة كاسوك وهو معروف بأنه كسب ثقة الملك عبدالعزيز وتربطه به علاقة قوية، كما وقف رجل الأعمال الشيخ محمد عبدالله علي رضا يترجم للملك، وهو الذي أصبح أول وزير تجارة لاحقًا، وعلى يمين الملك أ. س. روسل أحد مدراء شركة سوكال الأمريكية.

بدأ المؤسس بفتح الصمام وهو يحمد الله على هذه النعمة، وقام الوزير عبدالله السليمان بمساعدته في إدارة الصمام، وكأني أراه مفتخرًا بقطف ثمرة جهود الحكومة بعد مرور 6 سنوات من توقيع اتفاقية الامتياز عام 1933م، كما شارك مستشار الملك الليبي بشير السعداوي في هذا الحدث الكبير، في أجواء عمّ فيها السرور على جميع الحضور من أمراء ووزراء ومسؤولين ومواطنين.
وبهذا تدفق النفط عبر الأنبوب المغمور في البحر، ومنه إلى الأنبوب المرن (الخرطوم) المتصل بأنبوب استلام النفط على الباخرة سكوفيلد.




رسالة تهنئة من سوكال
بعد فتح الصمام قام فلويد أوليجر بتسليم الملك عبدالعزيز رسالة من مجلس إدارة شركة سوكال تهنئه فيها بتحميل أول ناقلة بالنفط الخام السعودي، وكان الشيخ محمد رضا يقرأ ويترجم الرسالة للملك عبدالعزيز الذي سرّ بمحتواها.  




د. ج. سكوفيلد D. G. Scofield 

اشتهرت ناقلة النفط د. ج. سكوفيلد وحازت على شرف تدوين اسمها في تاريخ صناعة النفط السعودية، بكونها أول باخرة يتم تحميلها بالنفط الخام السعودي، ناهيك عن تشريف المؤسس لها بزيارتها.
هذه الباخرة هي ملك لشركة سوكال، وتحمل اسم أول رئيس للشركة ديمتروس ج. سكوفيلد (1853- 1917م).

يبلغ طول السفينة 457 قدمًا وعرضها 58 قدمًا، وتم تصميمها لنقل 81,224 برميلًا من النفط الخام، و10,676 برميلًا من الوقود، وكانت كبيرة بمقاييس تلك الفترة، لكنها تعتبر صغيرة مقارنة بناقلات النفط العملاقة حاليًا.




الصعود على ناقلة النفط
استقلّ الملك عبدالعزيز وعدد من مرافقيه مركبًا من رصيف ميناء رأس تنورة (الرصيف الغربي) واتجهوا نحو السفينة سكوفيلد الراسية في مياه الخليج العربي على بعد كيلومتر واحد تقريبًا من الشاطئ، حيث لم يتم إنشاء الرصيف الجنوبي إلا في بداية الأربعينيات الميلادية.

رسا المركب عند منصة ملتصقة بالسفينة، نزل عليها الملك ومرافقوه وأطلقت صافرات السفينة ترحيبًا بهم ثم صعدوا السلم المؤدي إلى متن السفينة، حيث استقبل الملك عدد من جنود البحرية الأمريكية وبادلهم جلالته التحية، ثم تبعه الأمير منصور بن عبدالعزيز أول وزير دفاع سعودي وبقية المرافقين.




فور وصول جلالته إلى سطح السفينة، فتح الصمام معلنًا تحميلها بالنفط السعودي، وبعد ذلك تجوّل في السفينة واطلع على أقسامها.




أمير البحرين مهنئًا

في اليوم التالي قدم أمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة للسلام على المؤسس، وتهنئته بتصدير النفط، وتقديم دعوة لجلالته لزيارة البحرين، حيث وصل عبر فرضة الخبر مع وفد كبير من الشيوخ والمسؤولين، وكان في استقباله جلالة الملك عبدالعزيز.